قراءة في كتاب المحامي محمد المامي ولد مولاي أعلي حول إسناد تحرير العقود..
قراءة في كتاب المحامي محمد المامي ولد مولاي أعلي حول إسناد تحرير العقود..
بقلم: الباحث محمد سالم بلاه
توطئة :
طالعتُ -كغيري من المهتمين بالبحث العلمي في المجال القانوني- الكتاب النّفيس الذي ألّفه عضو الهيئة الوطنية للمحامين الموريتانيين، المحامي الفذ محمد المامي ولد مولاي، الذي عالجَ فيه إشكالية الإسناد الوارد في المادة 116 مكررة من المدونة التجارية، وهي الإشكالية التي أثارت جدلا كبيرا في الوسط القانوني، وأصبحت تطرحُ مؤخرا الكثير من المشاكل والصعوبات للعمل القضائي. فمنذُ أن جاء التعديل الذي دخل حيز التنفيذ بعد صدور عدد الجريدة الرسمية رقم 1348 مكرر بتاريخ 30 نوفمبر 2015؛ ظهرت في فضاء الحقل القانوني بوادرُ أزمة قوية بين المحامين والموثقين.. بدأت فيها ملامحُ التواطؤ على النّص القانوني تلوحُ في الأفق؛ والذي حِيكَ لاحقا بدعوى عدم الملاءمة بين النص والواقع. وهو الأمر الذي أفضى إلى امتناع الموثقين عن توثيق العقود المحررة من طرف المحامين كاعتراض ورفض للتوجه الجديد.
لكن المُعطى الأساسي والأهم في الأمر؛ ظل هو تعالي القضاء -كما هو واجبه- عن النقاشِ الذي أججته المادة، وتطبيقه القانون بعيدا عن ذلك الجدل، وذلك عملا بالمبدإ الدستوري الوارد في المادة 90 من الدستور (لا يخضعُ القاضي إلا للقانون). والذي جسدته الفقرة الثانية من المادة الأولى من التنظيم القضائي -المُنشإِ بمقتضى الإحالة الواردة في الفقرة الخامسة من المادة 89 من الدستور- حيثُ نصت على أنه : (تنظر هذه المحاكم في كل القضايا المدنية والتجارية والإدارية والجزائية وفي نزاعات الشغل وتبت فيها طبقا للقانون والنظم المعمول بها).
وعلى الرغم من تباين الآراء حول المقتضى، وتفاقم الإشكال جراء ذلك؛ لم يحظ الموضوع -على أهميته وخطورته- بأي اهتمامٍ علمي جاد وعالِم يكون فارسه القلم، وسلاحه الفكرة النّيرة المؤَسَّسَة، ومعتركه الأطر الأكاديمية والمناهج العلمية. فلا أذكر أيّ مساهمة علمية شارك بها الباحثون والمهتمون في نقاش الموضوع وبحثه. إذا ما استثنينا مقالا قديما للمؤلِّفِ كتبه تحت عنوان "المحامون والموثقون.. لا أزمة ولا إشكال"[1] نُشر بتاريخ 2016/01/25، وآخر للمحامي ذ/ زايد المسلمين ولد ماء العينين كتبه تحت عنوان "التوثيق.. وضرورة احترام القانون"[2] نُشِرَ هو الآخر بتاريخ 2018/03/07.
أما على الصعيد الإعلامي؛ فلا أذكر سوى مقابلة تلفزيونية يتيمة، أجرتها إحدى القنوات المحلية حول الموضوع، لكن النقاش الذي جرى فيها؛ لم يكن نقاشا علميا قانونيا هادئا؛ بقدر ما كان مراءً تعالت فيه كثيرا أصوات المتحاورين فآثرت الأفكار العلمية الصمت.
ومن هنا تتجلى أهمية كتاب "إسناد تحرير العقود للمحامين على ضوء المادة 116 مكررة من المدونة التجارية" من حيث إنّه يمثل منعرجا حاسما في تاريخ هذا الجدل. ذلك أنه انتقلَ به من أوكارِ المعرفة الحسية المقتاتة بالمتداول، إلى فضاء المعرفة العلمية الحر، القائم على البحث والتدقيق، حيث لا مجال لغير الأفكار المؤسَسَة أو الآراء المؤصلة.. وهو إنجاز لعمري يُشكر لصاحبه فيُذكر..
لقد قرأتُ هذا الكتاب بروح المتلقي المتجاوز للنظرة التقليدية للعلاقة بين الكاتب والقارئ، التي تتصور هذه العلاقة مجرد آصرة بين منتج ومستهلك، ذلك أنه منذ أن حجز المتلقي لنفسه مكانة كبيرة في الدراسات النقدية بعد أن كانَ مجرد معطى مهمل في العملية الإبداعية؛ لم يعد التلقي -كما كان في التصور التقليدي- مجرد الاستقبال (الاستهلاك فقط)، بل أضحى يعني إلى ذلك المعنى التبادل والنقاش (الإنتاج).
ولئنّ كانت القراءة -كما يصنّفها رواد نظرية التلقي- تأخذ أنماطا كثيرة ومختلفة؛ منها النمط المُحاور، والنمط الرافض، والنمط المتعالي، والنمط المستلَّب أو الخاضع...إلخ؛ فقد قررتُ أن أكون قدر الإمكان؛ قارئا يتبنى النمط المحاور والمتفاعل مع المادة العلمية المقدمة.
وهو ما يعني أنني قرأت المُؤَلَّفَ قراءة المستهلك المستقبِل؛ فوجدته كتابا نفيسا، دقيق الطرح، جميلة اللغة، حسن النهج، ثري المراجع، متنوع المصادر، غزير الفوائد.
وقرأتُه أيضا بغرض التبادل والنقاش؛ فوجدته يقدم مادةً علمية رحبة الصدر، تستفزّ القارئ، وتفتح له المجال واسعا للنقاش والإثراء.
وانطلاقا من ذلك، وتأسيسا عليهِ؛ أسجل في عُجالةٍ الملاحظات الموضوعية التالية :
1
بخصوص المقارنة بين التشريعات.. لا حظت أن المؤلف يكتفي دائما بالإشارة فقط إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أملت على المشرعين تبني فكرة إسناد العقود إلى المحامين دون الوقوف عندها.[3] والواقعُ أنه كان من الضروري -في اعتقادي- التطرق لهذه العوامل نظرا إلى الأهمية البالغة التي تتميّز بها، خصوصا أنها هي الباعث إلى المقتضى التشريعي موضوع المُعالجة، وحيثُ هي بهذا المستوى من الجوهرية، فإنه يكونُ إهمالها -في نظري- يمثل نقصا في دقة وتماسك المقارنة.
وبالإضافة إلى هذه الملاحظة؛ ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بالبناء الأفكاري إن صح هذا التعبير، لا تقل أهمية عن السابقة. وهي أنه في بعض الأحيانِ يُبالغ في الاقتصار لدرجة تبدو لي، مخلة إلى حد ما؛ بالتماسك المنطقي للطرح.
فمثلا عند حديثه عن "الإلزامية تحت طائلة عدم التسجيل"؛ ذكرَ أن المشرع المصري رتب هذا الأثر على عدم تحرير العقود من طرف محامٍ، فنص في المادة 59 من قانون المحاماة على أنه "مع مراعاة حكم الفقرة الثانية من المادة 34 لا يجوز تسجيل العقود ..إلخ.[4] فإيراده لهذه المادة دون التطرق للاستثناءِ الوارِد في المادة 34 المشارِ إليها؛ يجعل الفكرة التي أخذ منهجيا ناقصة. ذلك أنه سيظلُّ يتعيَّن على القارئ أن يطلع على المادة التي احتوت على الاستثناءِ المُشارِ إليه، لكي تكتمل لديه الفكرة. في حين، أنه كان حريًا به -في اعتقادي- أن يتطرق له، أو على الأقل يورِد في إحالة هامشية نص المادة 34 ذات الفحوى المستثنى حتى تكتمل الفكرة.
هذا بالإضافة إلى أن إغفاله لهذا المقتضى، جعل قوله إنّ المشرع السوري في المادة 109 من قانون المحاماة؛ سلك نفس المسلك الذي تبناه المشرع المصري في المادة السالفة الذكر؛ من الناحية المنهجية غيرُ مؤسسٍ. ذلك أنّ المادة 109 من القانون السوري التي ذكر؛ لم يرِد فيها أيّ استثناءٍ، بخلاف المادة 59 من القانون المصري. وعليهِ، يكون -على الأقل من الناحية الشكلية- الحكم عليها في ظل غياب مقتضى المادة 34 ذات المضمون المُستثنى؛ بالتوافق مع المادة 59 من القانون المصري؛ حكما غير مستكمل شروط الاسنتناج ومقومات.
2
إلى ذلك يتبادرُ لي، أنّه كان الأمثل -طالما أن السياق سياق تحليل ومقارنة- أن يتوقف قليلا لتفكيك العبارات التي استخدمها كل من المشرع المصري، والمشرع السوري في المادتين، والبحث حول أبعاد هذا الاختلاف. ذلك أنّ الأول استخدم عبارة التوقيع، فقال "إلا أن إذا كانت موقعا عليها من أحد المحامين".
بينما استخدم الثاني عبارة التنظيم، فقال "إلا إذا كانت منظَّمة من قبل محامٍ". ومعلومٌ أن هناك فرقا شاسعا بين ما يعرفُ في القاموس القانوني بالتوقيع، وما يُعرف فيه بالتنظيم.
وعلى أن هذا الاختلاف في العباراتِ قد لا يكون له على الصعيد المَقاصدي للتشريعين أي أثرٍ، إلا أنه بالقطع يُؤثر إلى حدّ ما، على مستوى الاندفاع في التوجه.. ذلك أن عبارة التنظيم -باعتبارِها تعبر عن إجراء مُصاحب لكل مراحل تَشكُّلِ المُنَظَّم الذي هو العقود- تُشيرُ إلى مستوى عالٍ من التنصيص والحرص على مشاركة المحامين في إعداد هذه العمليات التعاقدية.
في حين نجدُ عبارة التوقيع أقل حدة وأدنى اندفاع. ذلك أنها تمثل في الذهنية القانونية إجراءً لاحقا على عملية الإعدادِ.. وعليهِ يكون بهذا التصور المشرع السوري -على الأقل فيما يتعلق بشحنة العبارات- أكثر اندفاعا في تبنيه للمقضى محل المعالجة من المشرع المصري.. ولاشك أن هناك أسباب ماورائية هي الدافع إلى هذا الاختلاف، لعل أهمها تلك التي عبر عنها المؤلف ب "الأبعاد والمضامين الاقتصادية والاجتماعية" وعليهِ يكون من الواردِ في هذا الصدد؛ التذكير مجددا بأهمية التوقف عند هذه الأبعاد، وذلك لاستخلاص أوجه التداخل بينها وأوجه التباين، ومن ثم الوقوف على جذورِ الاختلاف بين النبرات الدلالية للتشريعات موضوع المُقارنة.
3
لم أكن في هذه العُجالة أنوي الحديث عن مزايا الكتاب، ذلك أنها هي السمة الطاغية في المادة العلمية المقدمة بين دفتيه، وعليه يكون التطرقُ لها يتطلب الكثير من الإطناب الذي لا يتسع له الوقت، لأنه سيكون تقريبا حديثا عن الكتاب في مجمله.. لكن ثمة مسائل استوقفتني كثيرا لمستُ فيها بشكل واضحٍ ذكاءَ ودهاء المؤلف -المعهودين في كتاباته- سأظل دائما أشيرُ إليها..
من هذه المسائل استنطاقه لآية الدين كمحاولة لاسقاط الخطاب القرآنِي على الخطاب التشريعي.. وقد تجلى ذلك في استنتاجه من تفسيرِ العلماء للآية الكريمة أن ما يُعبّرُ عنه القرآن بالكتابة (فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل) يُقابله ما يُعرف في التشريعات القانونية بالتحرير. وما يُعبٍر عنه القرآن بالاستشهاد (واستشهدوا شيهيدين من رجالكم...) يُقابله في التشريعات القانونية ما يُعرف بالتوثيق.[5] ومن هنا يتجلى واضحا -انطلاقا من هذا التصور- الفرقُ بين التحرير الذي هو من اختصاص المحامين حصرا في العمليات التعاقدية التجارية المذكورة في المادة 116 مكررة من مدونة التجارة، والتوثيق الذي هو من اختصاص الموثقين وفقا لقانون التوثيق، والمرسوم المحدد للتصرفات الواجبة التوثيق.
والحق أن هذا التمييز البالغ الذكاء كان موفقا، ولعل ذلك هو ما جعلَ القضاء يتبناهُ مؤخرا في تعاطيه مع العقود التجارية المنصوص على ضرورة تحريرها من طرف المحامين.[6]
على أنه تجب الإشارة في هذا الصدد؛ إلى أن المحكمة العليا في قرارها رقم 2018/32 الصادر بتاريخ 2018/06/20 المُلغي لقرار الغرفة التجارية بمحكمة الاستئناف بولاية انواكشوط الغربية رقم 2018/09 الصادر بتاريخ 2018/02/06 القاضي برفض إخلاء عقارين تم تمليكهما عن طريق مسطرة تحقيق رهينة مبررةً ذلك بأنهما مُؤجران من قبل المطعون ضده، والذي تبيّن لاحقا أن ما بنت عليه حكمها؛ هو عقد إيجار صوري غيرُ مُسجلٍ استُظهِرُ به بعد صدور الحكم. -ففي هذا القرار- لم تميّز -المحكمة العليا- بين التحرير والتوثيق، حيث ورد في فذلكتها للحكم ما نصه : (... ولا مناكرة بين الأطراف في أن هذا العقد لم يوثق لا أمام موثق عقود رسمي، طبقا لنص المادة القانوني أعلاه -تقصد المرسوم المحدد للتصرفات الواجبة التوثيق- ولا أمام محام معتمد طبقا للمادة 116 مكررة من المدونة التجارية). فلاشك أنّ هذا الأسلوب "العطفي النسقي" -على حد تعبير اللغويين- الذي يُفيد المشاركة في الحكمِ؛ لا يُشير إلى اعتناق فكرة التمييز بين التحرير والتوثيق. بل بخلاف ذلك يُفهم منهُ أنّ المحكمة، تعتبر أن ما أُنيط بالمحامين في المدونة التجارية، المتوخى منه هو التوثيق أساسا. ذلك ما يتجلى واضحا في قولها : (لم يوثق لا أمام موثق.. ولا أمام محامٍ). ولعله يعضد على ذلك تأسيسها لهذا المقتضى على المادة 615 من ق.ا.ع.م التي تنص في فقرتها الثانية على أنه (.. يلزم أن يثبت كراء العقارات والحقوق العينية بالكتابة إذا عقدت لأكثر من سنة ..إلخ)، حيث ورد في قرارها : (وحيثُ نصت كذلك المادة 615 من ق.ا.ع.م على أن إيجار العقار لمدة تزيد على سنة -كما هو الحال في هذه النازلة- لا يكون له أثر في مواجهة الغير ما لم يكن مسجلا).
ولا يخفى على ذوي الاختصاص أن شرط التوثيق الوارد في المادة المذكورة ليس شرطا للانعقادِ، وإنما هو شرطٌ للإثبات، ذلك أنّ عقد الكراء -كما هو معلومٌ- عقد رضائيٌّ ينعقدُ بمجرد تراضي أطرافه. فقد نصت الفقرة الأولى من ذات المادة على أنه (يتم الكراء بتراضي الطرفين على الشيء وعلى الأجرة، وعلى غير ذلك مما عسى أن يتفقا عليه من شروط في العقد). وهو المضمون الخاص المطبّق لمقتضيات المادة 40 من ق.ا.ع.م التي تنص على أنه "لا يتم الاتفاق إلا بتراضي الطرفين على العناصر الأساسية للالتزام (الشيء، والأجرة في عقد الكراء) وعلى باقي الشروط الأساسية المشروعة الأخرى التي يعتبرها الطرفان أساسية (وهي التي عبَّر عنها المشرع في عقد الكراء بقوله : وعلى غير ذلك مما عسى أن يتفقا عليه من شروط في العقد).
وإذا كان هذا هو الحال فيما يتعلق بالتوثيق؛ فإنّ الأمر يختلفُ في التحرير، ذلك أن التنصيص على هذا الأخير الوارد في المادة 116 مكررة من المدونة التجارية جاء -بخلاف التنصيص على التوثيق في عقد الكراء- تحتَ طائلة البطلان. حيث نصت -والعبرة بالنص- على أنه (تحت طائلة البطلان تحرر كافة العقود المتعلقة بالأصل التجاري ..إلخ). ومن هنا يتجلى واضحا الفرق الشاسع بين المفردتين في المنظومة القانونية.
وصفوة القول، أن الحديث عن إشكالية الإسناد الوارد في المادة 116 مكررة من مدونة التجارة دون مراعاة هذا المعطى البالغِ الأهمية، الذي هو التمييز بين التحرير والتوثيق؛ لا يعدو كونه ضرب من الإثراء بلا سبب على حساب ذمة الطرح العلمي الموضوعي المتماسك.
وعليهِ؛ نهيبُ بالمحكمة الموقرة أن تُرجع البصر كرّتين في الموضوع لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرا.
4
ودائما في الأحكام القضائية؛ لفتت انتباهي فقرة وردت في أمر رئيس المحكمة التجارية بنواكشوط قاضي الأمور المستعجلة ذ/ مولاي أعلي ولد مولاي أعلي رقم 2019/0075 الصادر بتاريخ 2019/03/07 والقاضي بإبطال عقد من العقود المخالفة للمقتضى، حيث ورد فيه ما نصه : (وحيثُ لا يعنى القاضي بملاءمة النص من عدم ملاءمته وهو مسؤول عن تطبيق القانون ولا يجوز له أن يمتنع عن تطبيق البعض منه بحجة عدم الملاءمة وإلا كان منكرا للعدالة). فما لفتَ انتباهي في هذه الفقرة هو النبرة التبريرية الصارخة التي اتسمت بها، لتطبيق القاضي للمادة 116 مكررة من مدونة التجارة. ذلك أن النفي الذي ورد فيها لعدم مسؤولية القاضي عن عدم ملاءمة القانون؛ لا يخلو من اعتراف ضمني بعدم الملاءمة، وهذا لاشك أنّه يؤثر على قطعية الحُكمِ. ومعلومٌ أن الفصل -حيثُ هو- لا يكون مكتملا إلا إذا كان قاطعا لعود المنازعة مقنعا في صوابه وعدله. ولا ريب أنّ هذه النبرة التبريرية الواردة في الفقرة، التي تُفيد الاعتراف الضمني بعدم ملاءمة النّص، بل يكاد يُلمس فيها الاعتذار الضمني؛ لها وقعٌ سلبيٌّ على سيكولوجية المتقاضين.
وحاصلُ الأمر أنه بالفعلِ على القاضي أن يُبرّر كيف طبق القانون، ولكن ليس عليهِ -في اعتقادي- أن يُبرر لماذا طبَّقه.
وبالرجوع إلى الكتاب وكملاحظة أخيرة على المبحث الأول الذي خصصه المؤلف للحديث عن "وجوب تحرير العقود من طرف محامٍ في القانون المقارن" أعتقد أنه كان من الضروري بعد عرض مواقف التشريعات حول الإسناد؛ الإجابة على السؤال التالي :
لماذا اختلفت التشريعات المُقارنة في ترتيبها لآثار عدم تحرير المحامين للعقود المذكورة في النصوص، وأيُّها كان -من وُجهة نظره- موفقا في موقفه إزاء الأمر، وإلى أي مدى يؤثر هذا الاختلاف على وجاهة توجه المشرع الموريتاني في الموضوع؟
أهو داعم لموقفه أم مناوئ له؟.
5
بخصوص ملاحظتي على المبحث الثاني؛ فقد لاحظتُ أنه في إطارِ حديثه عن مدونة التجارة[7] باعتبارها نصا خاصا؛ أشارَ إلى أنها أحالت في مادتها الرابعة إلى تطبيق قواعد القانون المدني في القضايا التجارية باعتباره الشريعة العامة في الحالات التي لا تتعارضُ قواعدها مع المدونة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المادة المُشارِ إلى مقتضاها؛ هي المادة الثانية لا الرابعة.
وقد أعجبني كثيرا -ولعل هذا تجلٍ من تجليات ذكاء وفطنة المؤلف المعهودين- إثارتهُ لإحالة المدونة التجارية إلى القانون المدني في المادة السالفة الذكر، الذي يُحيل إلى المذهب المالكي فيما يُنَصّ عليهِ، لما فيه ذلك -ظاهريا- من تعارض مع إحالة المدونة في المادة 1465 إلى الشريعة.
قلتُ ظاهريا لأنّني اختلفُ مع المؤلف في قراءته لهذا التعارض، حين اعتبرهُ لم يُلاقِ محلا على حدّ تعبيرهِ، باعتبارِ أنه في حالة عدم وجود نص في المدونة يرجع إلى الشريعة العامة -بمقتضى المادة 2 من المدونة- التي هي قواعد القانون المدني الذي يُحيل بدوره في المادة 1179 إلى قواعد المذهب المالكي. ومن ثمّ، يكون -حسب ما يُفهم من رأي المؤلف- لاغٍ لتنصيص المدونة على الرجوع إلى الشريعة.
والواقعُ أن ما رماهُ المُشرعُ -يتراءى لي وهذا مجرد رأي- مخالفٌ لهذه القراءة، فما يتبادر لي في الأمر، هو أن المشرع في المادة 2 لم يكن يقصد سوى القواعد غير المتعارِضة مع مقتضيات المدونة كما هو واضح وصريح من نصها (يُفصل في المسائل التجارية بمقتضى قوانين وأعراف وعادات التجارة أو بمقتضى القانون المدني في الحالات التي لا تتعارضُ مع فيها مع قواعد القانون التجاري).
فواضح من هذا المقتضى؛ أنّ الإحالة الواردة فيه؛ ليست إلى عموم نص قانون الالتزامات والعقود، وإنما هي مقتصرة على قواعده التي لا تتعارض مع المدونة، وبناءً على ذلك وتأسيسا عليه؛ تكون إحالته في المادة 1179 إلى المذهب المالكي، من حيث إنّها تتعارض مع قاعدة الإسناد الوارِدة في المادة 1465 من المدونة؛ مستثناة من القواعد المحالِ إليها.
ثم إن القاعدة الواردة في المادة 2 من المدونة كما هو واضح؛ قاعدة عامة، جاءت تحت الباب التمهيدي، وهو الأمر الذي يجعلها مقتضى عام، وعليه فهي لا تُعبٍّرُ في بُعدها المَقاصدي عن إحالةٍ بقدر ما تُعبِّرُ عن انفتاح المشرع على الضوابط والأعراف والعادات التي تحكم المجال التجاريَّ.
ولو سلّمنا جدلا بأنّها تعبّر عن إحالة وإلى عموم القانون المدني، فإنه حتما تكون المادة 1465 مقيدةً لها باعتبارها مقتضى خاص. تماما كما هو الحال في المادة 248 التي قيّدت وخرجت على مقتضى المادة 116 مكررة فيما يتعلق بأثر البطلان المترتبِ على مخالفة هذه الأخيرة.
أضف إلى ذلك، أنه إذا ما قُرِأت المادة 1465 من م.ت على ضوء ما يُسمّيه الأستاذ ميشل تروبير "التفسير الوظيفي" والذي يقتضي أن لا يُفسّرَ النّص إلا بما يتماشى مع التوجه العام للتشريع الوارد فيه؛ فإنّه سيكون من المتعين حينئذ؛ الرجوع إلى السياسة التشريعية التي تبناه المشرع، ولا ريب أن المتأمل في توجه المشرع في المدونة التجارية؛ سيكتشفُ دون كبير عناءٍ أنّه اتسمَ بمستوًى عالٍ من الانفتاح ورحابة الصدر. ومن ثمّ تكون الإحالة إلى الشريعة من حيثُ إنها معطى تشريع أوسع؛ أولى بالترجيح من الإحالة إلى المذهب المالكي، ذلك أنها أكثر تماشيا مع توجه المشرع وتطلعاته.
ختاما، لم يبقَ لي، سوى أن أقول في هذا المقام، إنّني تجرأت في هذه الورقة وشاركتُ بهذه الملاحظات المتواضعة على الرغم من أنني لستُ مؤهلا لذلك؛ لباعثين :
الأولُ منهما؛ هو الرغبة في تبديد تلك الصورة النمطية السلبية السائدة في الوسط الأكاديمي عن القارئ القانوني الموريتاني، فقناعتي هي أنّ المعرفة فعلٌ جماعي، وعليهِ، يجبُ أن يشارك فيه الجميع، بدءًا بالأستاذ والباحث، مرورا بالقاضي المحامي، انتهاءً بالطالب.
أما الثاني؛ فهو خرق هذا الصمت العارم في الحقل البحثي، والتفاعل مع المؤلف تشجيعا له، وتقديرا للجهد العلمي الكبير الذي بذله.. ذلك أن أهم دعامات البحث العلمي هو تشجيع أصحابه والتفاعل معهم.
وعلى أنني أدرك تمام الإدراكِ؛ أنني لست خير من يتفاعل معه، إلا أنني أرتأيت في هذه العجالة؛ أن لا يفوتني شرف المحاولة، ناشدا قول الشاعر :
فليس علينا أن يُساعدنا القضا
ولكن علينا أننا نبذل الجهدا
تحياتي..
_______________________________________
1- يوجد على الرابط التالي :
http://essahraa.net/archive_2/?q=node/12209
2- يوجد على الرابط التالي :
http://www.onamauritanie.mr/?q=content/
التوثيق-وضرورة-احترام-القانون-ذزايد-المسلمين-بن-ماء-العينين
3- أشار إليها بقوله : ... حيث تتجه الكثير من الأنظمة القانونية المعاصرة إلى الأخذ بإسناد تحرير العقود للمحاميم قبل توثيقها كخيار استراتيجي قانوني ذي أبعاد ومضامين اقتصادية واجتماعية مهمة. ص6.
4- أنظر ص7 وما بعدها.
5- أنظر ص20.
6- أرفق المؤلف دراسته بنماذج من الأحكام القضائية المتعلقة بالموضوع. فيها أحكام صادرة عن القضاء الموريتاني، وأخرى عن القضاءَين التونسي، والمغربي. ص85 وما بعدها.
7- أنظر ص 29 وما بعدها.
بقلم: الباحث محمد سالم بلاه
توطئة :
طالعتُ -كغيري من المهتمين بالبحث العلمي في المجال القانوني- الكتاب النّفيس الذي ألّفه عضو الهيئة الوطنية للمحامين الموريتانيين، المحامي الفذ محمد المامي ولد مولاي، الذي عالجَ فيه إشكالية الإسناد الوارد في المادة 116 مكررة من المدونة التجارية، وهي الإشكالية التي أثارت جدلا كبيرا في الوسط القانوني، وأصبحت تطرحُ مؤخرا الكثير من المشاكل والصعوبات للعمل القضائي. فمنذُ أن جاء التعديل الذي دخل حيز التنفيذ بعد صدور عدد الجريدة الرسمية رقم 1348 مكرر بتاريخ 30 نوفمبر 2015؛ ظهرت في فضاء الحقل القانوني بوادرُ أزمة قوية بين المحامين والموثقين.. بدأت فيها ملامحُ التواطؤ على النّص القانوني تلوحُ في الأفق؛ والذي حِيكَ لاحقا بدعوى عدم الملاءمة بين النص والواقع. وهو الأمر الذي أفضى إلى امتناع الموثقين عن توثيق العقود المحررة من طرف المحامين كاعتراض ورفض للتوجه الجديد.
لكن المُعطى الأساسي والأهم في الأمر؛ ظل هو تعالي القضاء -كما هو واجبه- عن النقاشِ الذي أججته المادة، وتطبيقه القانون بعيدا عن ذلك الجدل، وذلك عملا بالمبدإ الدستوري الوارد في المادة 90 من الدستور (لا يخضعُ القاضي إلا للقانون). والذي جسدته الفقرة الثانية من المادة الأولى من التنظيم القضائي -المُنشإِ بمقتضى الإحالة الواردة في الفقرة الخامسة من المادة 89 من الدستور- حيثُ نصت على أنه : (تنظر هذه المحاكم في كل القضايا المدنية والتجارية والإدارية والجزائية وفي نزاعات الشغل وتبت فيها طبقا للقانون والنظم المعمول بها).
وعلى الرغم من تباين الآراء حول المقتضى، وتفاقم الإشكال جراء ذلك؛ لم يحظ الموضوع -على أهميته وخطورته- بأي اهتمامٍ علمي جاد وعالِم يكون فارسه القلم، وسلاحه الفكرة النّيرة المؤَسَّسَة، ومعتركه الأطر الأكاديمية والمناهج العلمية. فلا أذكر أيّ مساهمة علمية شارك بها الباحثون والمهتمون في نقاش الموضوع وبحثه. إذا ما استثنينا مقالا قديما للمؤلِّفِ كتبه تحت عنوان "المحامون والموثقون.. لا أزمة ولا إشكال"[1] نُشر بتاريخ 2016/01/25، وآخر للمحامي ذ/ زايد المسلمين ولد ماء العينين كتبه تحت عنوان "التوثيق.. وضرورة احترام القانون"[2] نُشِرَ هو الآخر بتاريخ 2018/03/07.
أما على الصعيد الإعلامي؛ فلا أذكر سوى مقابلة تلفزيونية يتيمة، أجرتها إحدى القنوات المحلية حول الموضوع، لكن النقاش الذي جرى فيها؛ لم يكن نقاشا علميا قانونيا هادئا؛ بقدر ما كان مراءً تعالت فيه كثيرا أصوات المتحاورين فآثرت الأفكار العلمية الصمت.
ومن هنا تتجلى أهمية كتاب "إسناد تحرير العقود للمحامين على ضوء المادة 116 مكررة من المدونة التجارية" من حيث إنّه يمثل منعرجا حاسما في تاريخ هذا الجدل. ذلك أنه انتقلَ به من أوكارِ المعرفة الحسية المقتاتة بالمتداول، إلى فضاء المعرفة العلمية الحر، القائم على البحث والتدقيق، حيث لا مجال لغير الأفكار المؤسَسَة أو الآراء المؤصلة.. وهو إنجاز لعمري يُشكر لصاحبه فيُذكر..
لقد قرأتُ هذا الكتاب بروح المتلقي المتجاوز للنظرة التقليدية للعلاقة بين الكاتب والقارئ، التي تتصور هذه العلاقة مجرد آصرة بين منتج ومستهلك، ذلك أنه منذ أن حجز المتلقي لنفسه مكانة كبيرة في الدراسات النقدية بعد أن كانَ مجرد معطى مهمل في العملية الإبداعية؛ لم يعد التلقي -كما كان في التصور التقليدي- مجرد الاستقبال (الاستهلاك فقط)، بل أضحى يعني إلى ذلك المعنى التبادل والنقاش (الإنتاج).
ولئنّ كانت القراءة -كما يصنّفها رواد نظرية التلقي- تأخذ أنماطا كثيرة ومختلفة؛ منها النمط المُحاور، والنمط الرافض، والنمط المتعالي، والنمط المستلَّب أو الخاضع...إلخ؛ فقد قررتُ أن أكون قدر الإمكان؛ قارئا يتبنى النمط المحاور والمتفاعل مع المادة العلمية المقدمة.
وهو ما يعني أنني قرأت المُؤَلَّفَ قراءة المستهلك المستقبِل؛ فوجدته كتابا نفيسا، دقيق الطرح، جميلة اللغة، حسن النهج، ثري المراجع، متنوع المصادر، غزير الفوائد.
وقرأتُه أيضا بغرض التبادل والنقاش؛ فوجدته يقدم مادةً علمية رحبة الصدر، تستفزّ القارئ، وتفتح له المجال واسعا للنقاش والإثراء.
وانطلاقا من ذلك، وتأسيسا عليهِ؛ أسجل في عُجالةٍ الملاحظات الموضوعية التالية :
1
بخصوص المقارنة بين التشريعات.. لا حظت أن المؤلف يكتفي دائما بالإشارة فقط إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أملت على المشرعين تبني فكرة إسناد العقود إلى المحامين دون الوقوف عندها.[3] والواقعُ أنه كان من الضروري -في اعتقادي- التطرق لهذه العوامل نظرا إلى الأهمية البالغة التي تتميّز بها، خصوصا أنها هي الباعث إلى المقتضى التشريعي موضوع المُعالجة، وحيثُ هي بهذا المستوى من الجوهرية، فإنه يكونُ إهمالها -في نظري- يمثل نقصا في دقة وتماسك المقارنة.
وبالإضافة إلى هذه الملاحظة؛ ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بالبناء الأفكاري إن صح هذا التعبير، لا تقل أهمية عن السابقة. وهي أنه في بعض الأحيانِ يُبالغ في الاقتصار لدرجة تبدو لي، مخلة إلى حد ما؛ بالتماسك المنطقي للطرح.
فمثلا عند حديثه عن "الإلزامية تحت طائلة عدم التسجيل"؛ ذكرَ أن المشرع المصري رتب هذا الأثر على عدم تحرير العقود من طرف محامٍ، فنص في المادة 59 من قانون المحاماة على أنه "مع مراعاة حكم الفقرة الثانية من المادة 34 لا يجوز تسجيل العقود ..إلخ.[4] فإيراده لهذه المادة دون التطرق للاستثناءِ الوارِد في المادة 34 المشارِ إليها؛ يجعل الفكرة التي أخذ منهجيا ناقصة. ذلك أنه سيظلُّ يتعيَّن على القارئ أن يطلع على المادة التي احتوت على الاستثناءِ المُشارِ إليه، لكي تكتمل لديه الفكرة. في حين، أنه كان حريًا به -في اعتقادي- أن يتطرق له، أو على الأقل يورِد في إحالة هامشية نص المادة 34 ذات الفحوى المستثنى حتى تكتمل الفكرة.
هذا بالإضافة إلى أن إغفاله لهذا المقتضى، جعل قوله إنّ المشرع السوري في المادة 109 من قانون المحاماة؛ سلك نفس المسلك الذي تبناه المشرع المصري في المادة السالفة الذكر؛ من الناحية المنهجية غيرُ مؤسسٍ. ذلك أنّ المادة 109 من القانون السوري التي ذكر؛ لم يرِد فيها أيّ استثناءٍ، بخلاف المادة 59 من القانون المصري. وعليهِ، يكون -على الأقل من الناحية الشكلية- الحكم عليها في ظل غياب مقتضى المادة 34 ذات المضمون المُستثنى؛ بالتوافق مع المادة 59 من القانون المصري؛ حكما غير مستكمل شروط الاسنتناج ومقومات.
2
إلى ذلك يتبادرُ لي، أنّه كان الأمثل -طالما أن السياق سياق تحليل ومقارنة- أن يتوقف قليلا لتفكيك العبارات التي استخدمها كل من المشرع المصري، والمشرع السوري في المادتين، والبحث حول أبعاد هذا الاختلاف. ذلك أنّ الأول استخدم عبارة التوقيع، فقال "إلا أن إذا كانت موقعا عليها من أحد المحامين".
بينما استخدم الثاني عبارة التنظيم، فقال "إلا إذا كانت منظَّمة من قبل محامٍ". ومعلومٌ أن هناك فرقا شاسعا بين ما يعرفُ في القاموس القانوني بالتوقيع، وما يُعرف فيه بالتنظيم.
وعلى أن هذا الاختلاف في العباراتِ قد لا يكون له على الصعيد المَقاصدي للتشريعين أي أثرٍ، إلا أنه بالقطع يُؤثر إلى حدّ ما، على مستوى الاندفاع في التوجه.. ذلك أن عبارة التنظيم -باعتبارِها تعبر عن إجراء مُصاحب لكل مراحل تَشكُّلِ المُنَظَّم الذي هو العقود- تُشيرُ إلى مستوى عالٍ من التنصيص والحرص على مشاركة المحامين في إعداد هذه العمليات التعاقدية.
في حين نجدُ عبارة التوقيع أقل حدة وأدنى اندفاع. ذلك أنها تمثل في الذهنية القانونية إجراءً لاحقا على عملية الإعدادِ.. وعليهِ يكون بهذا التصور المشرع السوري -على الأقل فيما يتعلق بشحنة العبارات- أكثر اندفاعا في تبنيه للمقضى محل المعالجة من المشرع المصري.. ولاشك أن هناك أسباب ماورائية هي الدافع إلى هذا الاختلاف، لعل أهمها تلك التي عبر عنها المؤلف ب "الأبعاد والمضامين الاقتصادية والاجتماعية" وعليهِ يكون من الواردِ في هذا الصدد؛ التذكير مجددا بأهمية التوقف عند هذه الأبعاد، وذلك لاستخلاص أوجه التداخل بينها وأوجه التباين، ومن ثم الوقوف على جذورِ الاختلاف بين النبرات الدلالية للتشريعات موضوع المُقارنة.
3
لم أكن في هذه العُجالة أنوي الحديث عن مزايا الكتاب، ذلك أنها هي السمة الطاغية في المادة العلمية المقدمة بين دفتيه، وعليه يكون التطرقُ لها يتطلب الكثير من الإطناب الذي لا يتسع له الوقت، لأنه سيكون تقريبا حديثا عن الكتاب في مجمله.. لكن ثمة مسائل استوقفتني كثيرا لمستُ فيها بشكل واضحٍ ذكاءَ ودهاء المؤلف -المعهودين في كتاباته- سأظل دائما أشيرُ إليها..
من هذه المسائل استنطاقه لآية الدين كمحاولة لاسقاط الخطاب القرآنِي على الخطاب التشريعي.. وقد تجلى ذلك في استنتاجه من تفسيرِ العلماء للآية الكريمة أن ما يُعبّرُ عنه القرآن بالكتابة (فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل) يُقابله ما يُعرف في التشريعات القانونية بالتحرير. وما يُعبٍر عنه القرآن بالاستشهاد (واستشهدوا شيهيدين من رجالكم...) يُقابله في التشريعات القانونية ما يُعرف بالتوثيق.[5] ومن هنا يتجلى واضحا -انطلاقا من هذا التصور- الفرقُ بين التحرير الذي هو من اختصاص المحامين حصرا في العمليات التعاقدية التجارية المذكورة في المادة 116 مكررة من مدونة التجارة، والتوثيق الذي هو من اختصاص الموثقين وفقا لقانون التوثيق، والمرسوم المحدد للتصرفات الواجبة التوثيق.
والحق أن هذا التمييز البالغ الذكاء كان موفقا، ولعل ذلك هو ما جعلَ القضاء يتبناهُ مؤخرا في تعاطيه مع العقود التجارية المنصوص على ضرورة تحريرها من طرف المحامين.[6]
على أنه تجب الإشارة في هذا الصدد؛ إلى أن المحكمة العليا في قرارها رقم 2018/32 الصادر بتاريخ 2018/06/20 المُلغي لقرار الغرفة التجارية بمحكمة الاستئناف بولاية انواكشوط الغربية رقم 2018/09 الصادر بتاريخ 2018/02/06 القاضي برفض إخلاء عقارين تم تمليكهما عن طريق مسطرة تحقيق رهينة مبررةً ذلك بأنهما مُؤجران من قبل المطعون ضده، والذي تبيّن لاحقا أن ما بنت عليه حكمها؛ هو عقد إيجار صوري غيرُ مُسجلٍ استُظهِرُ به بعد صدور الحكم. -ففي هذا القرار- لم تميّز -المحكمة العليا- بين التحرير والتوثيق، حيث ورد في فذلكتها للحكم ما نصه : (... ولا مناكرة بين الأطراف في أن هذا العقد لم يوثق لا أمام موثق عقود رسمي، طبقا لنص المادة القانوني أعلاه -تقصد المرسوم المحدد للتصرفات الواجبة التوثيق- ولا أمام محام معتمد طبقا للمادة 116 مكررة من المدونة التجارية). فلاشك أنّ هذا الأسلوب "العطفي النسقي" -على حد تعبير اللغويين- الذي يُفيد المشاركة في الحكمِ؛ لا يُشير إلى اعتناق فكرة التمييز بين التحرير والتوثيق. بل بخلاف ذلك يُفهم منهُ أنّ المحكمة، تعتبر أن ما أُنيط بالمحامين في المدونة التجارية، المتوخى منه هو التوثيق أساسا. ذلك ما يتجلى واضحا في قولها : (لم يوثق لا أمام موثق.. ولا أمام محامٍ). ولعله يعضد على ذلك تأسيسها لهذا المقتضى على المادة 615 من ق.ا.ع.م التي تنص في فقرتها الثانية على أنه (.. يلزم أن يثبت كراء العقارات والحقوق العينية بالكتابة إذا عقدت لأكثر من سنة ..إلخ)، حيث ورد في قرارها : (وحيثُ نصت كذلك المادة 615 من ق.ا.ع.م على أن إيجار العقار لمدة تزيد على سنة -كما هو الحال في هذه النازلة- لا يكون له أثر في مواجهة الغير ما لم يكن مسجلا).
ولا يخفى على ذوي الاختصاص أن شرط التوثيق الوارد في المادة المذكورة ليس شرطا للانعقادِ، وإنما هو شرطٌ للإثبات، ذلك أنّ عقد الكراء -كما هو معلومٌ- عقد رضائيٌّ ينعقدُ بمجرد تراضي أطرافه. فقد نصت الفقرة الأولى من ذات المادة على أنه (يتم الكراء بتراضي الطرفين على الشيء وعلى الأجرة، وعلى غير ذلك مما عسى أن يتفقا عليه من شروط في العقد). وهو المضمون الخاص المطبّق لمقتضيات المادة 40 من ق.ا.ع.م التي تنص على أنه "لا يتم الاتفاق إلا بتراضي الطرفين على العناصر الأساسية للالتزام (الشيء، والأجرة في عقد الكراء) وعلى باقي الشروط الأساسية المشروعة الأخرى التي يعتبرها الطرفان أساسية (وهي التي عبَّر عنها المشرع في عقد الكراء بقوله : وعلى غير ذلك مما عسى أن يتفقا عليه من شروط في العقد).
وإذا كان هذا هو الحال فيما يتعلق بالتوثيق؛ فإنّ الأمر يختلفُ في التحرير، ذلك أن التنصيص على هذا الأخير الوارد في المادة 116 مكررة من المدونة التجارية جاء -بخلاف التنصيص على التوثيق في عقد الكراء- تحتَ طائلة البطلان. حيث نصت -والعبرة بالنص- على أنه (تحت طائلة البطلان تحرر كافة العقود المتعلقة بالأصل التجاري ..إلخ). ومن هنا يتجلى واضحا الفرق الشاسع بين المفردتين في المنظومة القانونية.
وصفوة القول، أن الحديث عن إشكالية الإسناد الوارد في المادة 116 مكررة من مدونة التجارة دون مراعاة هذا المعطى البالغِ الأهمية، الذي هو التمييز بين التحرير والتوثيق؛ لا يعدو كونه ضرب من الإثراء بلا سبب على حساب ذمة الطرح العلمي الموضوعي المتماسك.
وعليهِ؛ نهيبُ بالمحكمة الموقرة أن تُرجع البصر كرّتين في الموضوع لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرا.
4
ودائما في الأحكام القضائية؛ لفتت انتباهي فقرة وردت في أمر رئيس المحكمة التجارية بنواكشوط قاضي الأمور المستعجلة ذ/ مولاي أعلي ولد مولاي أعلي رقم 2019/0075 الصادر بتاريخ 2019/03/07 والقاضي بإبطال عقد من العقود المخالفة للمقتضى، حيث ورد فيه ما نصه : (وحيثُ لا يعنى القاضي بملاءمة النص من عدم ملاءمته وهو مسؤول عن تطبيق القانون ولا يجوز له أن يمتنع عن تطبيق البعض منه بحجة عدم الملاءمة وإلا كان منكرا للعدالة). فما لفتَ انتباهي في هذه الفقرة هو النبرة التبريرية الصارخة التي اتسمت بها، لتطبيق القاضي للمادة 116 مكررة من مدونة التجارة. ذلك أن النفي الذي ورد فيها لعدم مسؤولية القاضي عن عدم ملاءمة القانون؛ لا يخلو من اعتراف ضمني بعدم الملاءمة، وهذا لاشك أنّه يؤثر على قطعية الحُكمِ. ومعلومٌ أن الفصل -حيثُ هو- لا يكون مكتملا إلا إذا كان قاطعا لعود المنازعة مقنعا في صوابه وعدله. ولا ريب أنّ هذه النبرة التبريرية الواردة في الفقرة، التي تُفيد الاعتراف الضمني بعدم ملاءمة النّص، بل يكاد يُلمس فيها الاعتذار الضمني؛ لها وقعٌ سلبيٌّ على سيكولوجية المتقاضين.
وحاصلُ الأمر أنه بالفعلِ على القاضي أن يُبرّر كيف طبق القانون، ولكن ليس عليهِ -في اعتقادي- أن يُبرر لماذا طبَّقه.
وبالرجوع إلى الكتاب وكملاحظة أخيرة على المبحث الأول الذي خصصه المؤلف للحديث عن "وجوب تحرير العقود من طرف محامٍ في القانون المقارن" أعتقد أنه كان من الضروري بعد عرض مواقف التشريعات حول الإسناد؛ الإجابة على السؤال التالي :
لماذا اختلفت التشريعات المُقارنة في ترتيبها لآثار عدم تحرير المحامين للعقود المذكورة في النصوص، وأيُّها كان -من وُجهة نظره- موفقا في موقفه إزاء الأمر، وإلى أي مدى يؤثر هذا الاختلاف على وجاهة توجه المشرع الموريتاني في الموضوع؟
أهو داعم لموقفه أم مناوئ له؟.
5
بخصوص ملاحظتي على المبحث الثاني؛ فقد لاحظتُ أنه في إطارِ حديثه عن مدونة التجارة[7] باعتبارها نصا خاصا؛ أشارَ إلى أنها أحالت في مادتها الرابعة إلى تطبيق قواعد القانون المدني في القضايا التجارية باعتباره الشريعة العامة في الحالات التي لا تتعارضُ قواعدها مع المدونة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المادة المُشارِ إلى مقتضاها؛ هي المادة الثانية لا الرابعة.
وقد أعجبني كثيرا -ولعل هذا تجلٍ من تجليات ذكاء وفطنة المؤلف المعهودين- إثارتهُ لإحالة المدونة التجارية إلى القانون المدني في المادة السالفة الذكر، الذي يُحيل إلى المذهب المالكي فيما يُنَصّ عليهِ، لما فيه ذلك -ظاهريا- من تعارض مع إحالة المدونة في المادة 1465 إلى الشريعة.
قلتُ ظاهريا لأنّني اختلفُ مع المؤلف في قراءته لهذا التعارض، حين اعتبرهُ لم يُلاقِ محلا على حدّ تعبيرهِ، باعتبارِ أنه في حالة عدم وجود نص في المدونة يرجع إلى الشريعة العامة -بمقتضى المادة 2 من المدونة- التي هي قواعد القانون المدني الذي يُحيل بدوره في المادة 1179 إلى قواعد المذهب المالكي. ومن ثمّ، يكون -حسب ما يُفهم من رأي المؤلف- لاغٍ لتنصيص المدونة على الرجوع إلى الشريعة.
والواقعُ أن ما رماهُ المُشرعُ -يتراءى لي وهذا مجرد رأي- مخالفٌ لهذه القراءة، فما يتبادر لي في الأمر، هو أن المشرع في المادة 2 لم يكن يقصد سوى القواعد غير المتعارِضة مع مقتضيات المدونة كما هو واضح وصريح من نصها (يُفصل في المسائل التجارية بمقتضى قوانين وأعراف وعادات التجارة أو بمقتضى القانون المدني في الحالات التي لا تتعارضُ مع فيها مع قواعد القانون التجاري).
فواضح من هذا المقتضى؛ أنّ الإحالة الواردة فيه؛ ليست إلى عموم نص قانون الالتزامات والعقود، وإنما هي مقتصرة على قواعده التي لا تتعارض مع المدونة، وبناءً على ذلك وتأسيسا عليه؛ تكون إحالته في المادة 1179 إلى المذهب المالكي، من حيث إنّها تتعارض مع قاعدة الإسناد الوارِدة في المادة 1465 من المدونة؛ مستثناة من القواعد المحالِ إليها.
ثم إن القاعدة الواردة في المادة 2 من المدونة كما هو واضح؛ قاعدة عامة، جاءت تحت الباب التمهيدي، وهو الأمر الذي يجعلها مقتضى عام، وعليه فهي لا تُعبٍّرُ في بُعدها المَقاصدي عن إحالةٍ بقدر ما تُعبِّرُ عن انفتاح المشرع على الضوابط والأعراف والعادات التي تحكم المجال التجاريَّ.
ولو سلّمنا جدلا بأنّها تعبّر عن إحالة وإلى عموم القانون المدني، فإنه حتما تكون المادة 1465 مقيدةً لها باعتبارها مقتضى خاص. تماما كما هو الحال في المادة 248 التي قيّدت وخرجت على مقتضى المادة 116 مكررة فيما يتعلق بأثر البطلان المترتبِ على مخالفة هذه الأخيرة.
أضف إلى ذلك، أنه إذا ما قُرِأت المادة 1465 من م.ت على ضوء ما يُسمّيه الأستاذ ميشل تروبير "التفسير الوظيفي" والذي يقتضي أن لا يُفسّرَ النّص إلا بما يتماشى مع التوجه العام للتشريع الوارد فيه؛ فإنّه سيكون من المتعين حينئذ؛ الرجوع إلى السياسة التشريعية التي تبناه المشرع، ولا ريب أن المتأمل في توجه المشرع في المدونة التجارية؛ سيكتشفُ دون كبير عناءٍ أنّه اتسمَ بمستوًى عالٍ من الانفتاح ورحابة الصدر. ومن ثمّ تكون الإحالة إلى الشريعة من حيثُ إنها معطى تشريع أوسع؛ أولى بالترجيح من الإحالة إلى المذهب المالكي، ذلك أنها أكثر تماشيا مع توجه المشرع وتطلعاته.
ختاما، لم يبقَ لي، سوى أن أقول في هذا المقام، إنّني تجرأت في هذه الورقة وشاركتُ بهذه الملاحظات المتواضعة على الرغم من أنني لستُ مؤهلا لذلك؛ لباعثين :
الأولُ منهما؛ هو الرغبة في تبديد تلك الصورة النمطية السلبية السائدة في الوسط الأكاديمي عن القارئ القانوني الموريتاني، فقناعتي هي أنّ المعرفة فعلٌ جماعي، وعليهِ، يجبُ أن يشارك فيه الجميع، بدءًا بالأستاذ والباحث، مرورا بالقاضي المحامي، انتهاءً بالطالب.
أما الثاني؛ فهو خرق هذا الصمت العارم في الحقل البحثي، والتفاعل مع المؤلف تشجيعا له، وتقديرا للجهد العلمي الكبير الذي بذله.. ذلك أن أهم دعامات البحث العلمي هو تشجيع أصحابه والتفاعل معهم.
وعلى أنني أدرك تمام الإدراكِ؛ أنني لست خير من يتفاعل معه، إلا أنني أرتأيت في هذه العجالة؛ أن لا يفوتني شرف المحاولة، ناشدا قول الشاعر :
فليس علينا أن يُساعدنا القضا
ولكن علينا أننا نبذل الجهدا
تحياتي..
_______________________________________
1- يوجد على الرابط التالي :
http://essahraa.net/archive_2/?q=node/12209
2- يوجد على الرابط التالي :
http://www.onamauritanie.mr/?q=content/
التوثيق-وضرورة-احترام-القانون-ذزايد-المسلمين-بن-ماء-العينين
3- أشار إليها بقوله : ... حيث تتجه الكثير من الأنظمة القانونية المعاصرة إلى الأخذ بإسناد تحرير العقود للمحاميم قبل توثيقها كخيار استراتيجي قانوني ذي أبعاد ومضامين اقتصادية واجتماعية مهمة. ص6.
4- أنظر ص7 وما بعدها.
5- أنظر ص20.
6- أرفق المؤلف دراسته بنماذج من الأحكام القضائية المتعلقة بالموضوع. فيها أحكام صادرة عن القضاء الموريتاني، وأخرى عن القضاءَين التونسي، والمغربي. ص85 وما بعدها.
7- أنظر ص 29 وما بعدها.